في زمن تتلاشى فيه القيم أمام سطوة الطائفية والانقسامات، وتنهار فيه المؤسسات تحت ثقل الأزمات السياسية والاقتصادية، تبرز تجربة “مؤسّسة عامل الدولية” كنموذج فريد استطاع الصمود والتمدّد لأكثر من أربعة عقود، حتى غدت جزءًا من المشهد الاجتماعي اللبناني، ورافعة أساسية للعمل الأهلي في المنطقة.
في هذا الحوار، يروي الدكتور كامل مهنا، مؤسِّس عامل ورئيسها، قصة النشأة والاستمرار، مستعرضًا سرّ النجاح والرسالة الإنسانية التي جعلت من “عامل” مدرسة في التضامن المجتمعي والعمل المدني.
الجذور: من فلاح متواضع إلى طبيب يحمل همّ الناس
يرى الدكتور مهنا أنّ كل مؤسسة أو مشروع إنساني لا بد أن ينطلق من جذور متينة مرتبطة بالناس وتاريخهم. فهو ابن قرية جنوبية وعائلة فلاحية بسيطة. والده، الذي شغل منصب نائب رئيس البلدية أربعين عامًا، كان رجلاً مستقيمًا مؤمنًا بخدمة الناس، واعتبر أن التعليم هو السلاح الأقوى لمواجهة الفقر والحرمان.
رغم قلة الإمكانات، قرر الوالد أن يعلّم أبناءه الأحد عشر، فخرج منهم الطبيب والقاضي والمربي. أما كامل مهنا فاختار دراسة الطب في فرنسا، لكن رحلته لم تقف عند حدود العيادة والمستشفى، بل تجاوزتها إلى مشروع إنساني شامل.
يقول: “عندما عدت من فرنسا، شعرت أنّ رسالتي لا يجب أن تقتصر على مهنة فردية، بل يجب أن تكون خدمة عامة. ومن هنا ولدت فكرة عامل: جمعية مدنية لا طائفية، شعارها الدائم: لا أريد شيئًا من أحد ولا أتوقع شيئًا من أحد.”
من فكرة إلى مؤسسة
انطلقت “عامل” عام 1979 في أصعب الظروف: الحرب الأهلية كانت تفتك بالبلاد، والانقسام الطائفي يهدد كل بيت. ومع ذلك، وُلدت المؤسسة كمساحة جامعة، مفتوحة للجميع دون تمييز.
ومع مرور السنوات، توسعت أنشطة عامل لتشمل مجالات الصحة، التربية، التنمية الاجتماعية، حقوق الإنسان، ودعم الفئات المهمّشة، حتى أصبحت اليوم تضم أكثر من خمسين مركزًا موزعة على مختلف المناطق اللبنانية، يعمل فيها حوالي 1800 موظف ومتطوّع، 85% منهم من الشباب والنساء.
مقوّمات النجاح
حين يُسأل الدكتور مهنا عن سرّ هذا النجاح والاستمرارية، يجيب بأن هناك خمسة ركائز أساسية بُنيت عليها المؤسسة:
-
التراحم والمحبة: العمل مع الناس بمحبة، والاقتراب من حاجاتهم كشرط لنجاح أي مبادرة إنسانية.
-
الثقة: الثقة المتبادلة هي أساس العلاقة بين المؤسسة والمجتمع.
-
المعلومة الدقيقة: لا قرار ولا رأي في عامل دون معطيات واضحة وموثوقة.
-
الرؤية المستقبلية: لا يكفي أن نعمل بحسن نية، بل يجب أن يكون هناك مشروع ورؤية لما بعد.
-
الكادر البشري الكفوء: الإنسان المناسب القادر على تحويل الرؤية إلى واقع هو الرأسمال الحقيقي.
يضيف: “نحن نؤمن أنّ المؤسسة التي لا تملك رؤية للمستقبل محكوم عليها أن تذوب مهما بدت ناجحة في اللحظة الراهنة.”
فلسفة العمل: الإنسان أولًا
تقوم فلسفة “عامل” على قناعة عميقة بأنّ الإنسان هو الغاية وهو المحور. فالدين أو الطائفة أو الجنسية ليست خيارًا فرديًا، بل معطيات وُلدنا بها. أما ما يمكن أن نختاره ونصنعه معًا، فهو إنسانيتنا المشتركة.
من هنا، رفعت المؤسسة ثلاثة شعارات أساسية:
-
التفكير الإيجابي
-
التفاؤل المستمر
-
التضامن المجتمعي
هذه الشعارات لم تكن مجرّد كلمات، بل تحوّلت إلى ممارسة يومية تُترجم في أنشطة المراكز، في التعامل مع الأزمات، وفي طريقة النظر إلى المستقبل.
لبنان: بلد الأزمات وبلد الفرص
رغم الانقسامات السياسية والاقتصادية الخانقة، يرى الدكتور مهنا أنّ لبنان ما زال قادرًا على تقديم نموذج عالمي في العيش المشترك. ويقول:
“لبنان بلد التناقضات: فيه من الطائفية ما يكفي لتفجيره، لكنه في الوقت نفسه يملك من عناصر التنوع ما يؤهله ليكون رسالة حقيقية للعالم. إذا استطعنا أن نعمل كفريق واحد، بعيدًا عن العصبيات، سنقدّم نموذجًا بديلاً عن العنصرية والانقسام الذي يفتك بكثير من المجتمعات.”
حضور دولي ورسالة عابرة للحدود
لم يقتصر عمل “عامل” على لبنان فقط. فقد امتدت التجربة إلى الخارج، عبر شراكات ومراكز في دول عدة مثل فرنسا، سويسرا، بلجيكا، ساحل العاج، وحتى سريلانكا.
هذا الامتداد لم يكن هدفًا بحدّ ذاته، بل جاء كترجمة لشعار المؤسسة: خدمة الإنسان أينما كان، بعيدًا عن الحسابات السياسية.
الكرامة الإنسانية أساس كل شيء
يُصرّ الدكتور مهنا على أنّه لا يمكن بناء دولة حديثة أو مجتمع متماسك ما لم تكن الكرامة الإنسانية مضمونة. وهذه الكرامة تتجسّد في:
-
الحق في الصحة
-
الحق في التعليم
-
الحق في السكن
-
الحق في العمل
من دون هذه المقومات الأساسية، يتحوّل المواطن إلى كائن مسحوق، عاجز عن المساهمة في بناء وطنه.
جيل جديد ورسالة متجددة
تفتخر عامل بأنّ معظم العاملين والمتطوعين فيها من الشباب. وهذا، برأي مهنا، هو سرّ بقائها وتجددها:
“جيل اليوم هو الذي سيحمل الراية. نحن لا نعمل لنخلّد أنفسنا، بل لنُسلم الراية لمن بعدنا. 85% من فريقنا من الصبايا والشباب، وهذا دليل على أنّ المؤسسة ليست أسيرة الماضي، بل تنبض بالمستقبل.”
من الجنوب إلى العالم
من قرية صغيرة في الجنوب اللبناني، وُلدت قصة إنسان قرر أن يجعل من مهنته طريقًا لخدمة الناس، فتحولت فكرته إلى مؤسسة عابرة للحدود.
“عامل” اليوم ليست مجرد جمعية أهلية، بل حركة اجتماعية نهضوية مبنية على الكرامة الإنسانية والحرية، وتجربة تقول إن العمل الأهلي يمكن أن يصمد ويتجذّر، بل ويكبر، إذا كان محمولًا على رؤية واضحة وقيم راسخة.
وفي زمن يتآكل فيه كل شيء أمام الأزمات، تبقى “عامل” شاهدًا على أنّ الإيمان بالإنسان وحده كفيلٌ بأن يصنع المستحيل.
المصدر
https://realitynews.news/174093/
رخصة المشاع الإبداعي المنسوبة 4.0 الدولية