نص محاضرة في معرض بيروت العربي الدولي للكتاب 25 أيار 2025
دور “مؤسسة عامل” كحركة تغيير اجتماعي
في ظل التطورات الراهنة
د. كامل مهنا
في البداية، لا بد من التأكيد على أهمية الحراك الاجتماعي في تعبيد طرق التغيير، أو في السعي لبناء الأسس الديموقراطية التي يقوم عليها التغيير، بالاعتماد على مشاريع التنمية التي تنفذها المؤسسات الاجتماعية والإنسانية، و”مؤسسة عامل الدولية” واحدة من كبريات تلك المؤسسات العريقة في لبنان، مضى على انطلاقتها الأساسية 45 سنة، وقد أتت بدايتها مع ارتفاع حرارة الحرب الأهلية والاجتياح الإسرائيلي العام 1978، وهي تعيش اليوم أهوال جرائم الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان وسوريا واليمن، فلا تتفرج على ما يجري، بل كانت وتبقى حاضرة أبدًا في الخطوط الأمامية في حالات الطوارئ العصيبة، وفي أيام السلم تعمل خلاياها التنموية بفعالية عالية، في تنفيذ مشاريع تهدف إلى النهوض بالمجتمع، ورفع مستواه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وتخفف من الأزمات النفسية الضاغطة على أنفاس كباره وأطفاله.
نحن في “المؤسسة” نسأل أنفسنا، في كل مرحلة، وكل اجتماع وكل لقاء وكل حدث، عن دورنا في التخفيف من الأزمات التي تطوّق المواطن اللبناني، في ظل ما يواجهه من عجز وفقر وإحباط، وانعكاس كل ذلك على مستقبله ومستقبل أبنائه والمجتمع عمومًا. نحن نكثر من الأسئلة لنصبح أكثر قربًا من الإجابات، وأكثر مسؤولية عن التغيير الاجتماعي في لبنان. ولا يغرَّنَّكَ ما تراه من أحزاب وحركات ذات طابع طائفي، ولها جمهور واسع في الشوارع اللبنانية، وتحتل منابر السلطة، ذلك أن التغيير المنشود في لبنان، لا يمكن أن يكون إلا على يد المنظمات المدنية التي تحترم الدين كخيار شخصي، وتعمل لتكريس الهوية الوطنية كخيار جامع لكل أبناء الوطن. وعلى يد الديموقراطيين الذين يبنون خياراتهم على حرية التفكير والتمثيل الصحيح لكل فئات المجتمع، والانطلاق بالتمثيل الصحيح من مصلحة الوطن لا الطائفة، ولا المذهب، ولا العشيرة، ولا العائلة. نحن في المؤسسة، نبني كوادرنا على هذا الأساس، ونحلم بإصلاح النظام من هذا المنطلق.
لكن يبقى السؤال المهم بالفعل: هل التغيير يأتي في صلب مهمة المؤسسات الإنسانية أو الاجتماعية، أم
أنه محصور في المؤسسات السياسية فقط؟ وهل يمكن لـ”مؤسسة عامل الدولية” التي أمثلها هنا أن تكون قادرة على المساهمة في التغيير؟
سوف أستعين هنا بـ”موسوعة علم الاجتماع” التي تعرّف “الحركات الاجتماعية”، بأنها تقوم بجهود هادفة ومنظمة، تكون أهدافها محدودة أو واسعة، ثورية أو إصلاحية، تعمل خارج القنوات السياسية المعتادة، وقد تَنْفُذُ بعمق إلى دوائر القوة السياسية، وهي، بحسب جوردون مارشال، “تنطوي على تعبئة الجمهور حول مشروع للتغيير“. وهي اجتماعية لأنها بعيدة عن جهاز الدولة، أو لأن مطالبها تنبع أساسًا من المجال الاجتماعي. وتسرد عزة خليل، في كتابها “الحركات الاجتماعية”، مجموعة من الأمثلة، عن مشاركة حركات اجتماعية في أحداث سياسية مهمة، كما في جنوب أفريقيا والمكسيك، ومشاركتها في قمة الأرض التي عقدت في ريو دي جانيرو، ومؤتمر تشباس، ومؤتمر دافوس الأول الذي عمل على صياغة البدائل المضادة لسياسات العولمة الرأسمالية. إضافة إلى مشاركة العديد من الحركات الاجتماعية، في مؤتمرات دولية تطرح ردودًا سياسية على العولمة.
وعلى المستوى العربي، لم تدع “مؤسسة عامل” فرصة للانفتاح على مؤسسات اجتماعية عربية إلا واستغلتها، ونسجت معها علاقات شبكية، أو شاركت معها في مؤتمرات مثل مؤتمر القاهرة، وتطلعت، مثل مجموعة من الجمعيات العربية الأخرى، إلى إقامة “منتدى اجتماعي عربي”، يمكن أن يشكل إطارًا لمناهضة العولمة، ويساهم في العمل على تعزيز الديموقراطية.
من جهتنا في عامل اننا نناهض السياسات السائدة وندافع عن المهمشين والمظلومين والبؤساء في العالم، وعن القضية الفلسطينية التي تنصف شعبًا اغتُصِبَت أرضُه، وشرده الاحتلال الصهيوني، وعن تلك المبادئ العامة التي استمرت المؤسسة تتبناها منذ تأسيسها، وتندرج تحت عناوين سياسية تقدمية نهضوية تغييرية. تلك هي مواقف المؤسسة أيضًا، تفعل ذلك كله، من دون أن تعتبر نفسها تنظيمًا سياسيًّا، أو تتبع حزبًا، أو تبني كوادرها بناء حزبيًّا عصبويًّا. وبهذا حافظنا على الإطار العام لبناء حركة اجتماعية تغييرية، ذات أهداف واضحة.
ومنذ توارت أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية والحركات الوطنية العربية، خلف عدد من الهزائم التي أصابتها بجروح كثيرة، على المستويين المحلي والعربي، منذ نكبة فلسطين عام 1948، إلى هزيمة 1967، فالحرب الأهلية في لبنان عام 1975، ثم إخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان عام 1982، ليقضي تفكيك الاتحاد السوفييتي على ما تبقى من أمل في إسناد أي حركة تحررية في العالم، ويتسبب بهزيمة الأحزاب الشيوعية في العالم، فيخلو الجو لسيطرة النظام العالمي الجديد، والقطب الأوحد في العالم. يضاف إلى ذلك ما أصاب لبنان من انهيار اقتصادي ومن اسبابة الفساد السائد، وانهيار أمني، وتفجير مرفأ بيروت، وخسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، جراء العدوان الصهيوني الذي طاولت نيرانه أيضًا سوريا واليمن.
رغم كل هذه الحرائق التي زرعت الرعب في نواحي الوطن، استمرت مؤسسات إنسانية وحركات اجتماعية، كانت قريبة من أحزاب يسارية، أو على علاقة بها، ومنها “مؤسسة عامل الدولية”، التي ما زالت، منذ إنشائها، تناضل بشكل متواصل، وتقوم بواجبها الاجتماعي والسياسي والوطني والإنساني، وقد تخطت، بالأنشطة التي تقوم بها، منشأها اللبناني، وباتت حركة دولية عابرة للحدود.
ولكي تكون صورة التزام مؤسستنا الوطني واضحة وجليّة، يمكنني القول إن الكثير من الأفكار والفلسفات والأهداف التي يمكن أن تتبناها مؤسسة ديموقراطية، مثل مؤسستنا، أو يتبناها أي عمل وطني ديموقراطي في لبنان، موجودة في البرنامج الإصلاحي الديمقراطي للنظام السياسي اللبناني، الذي أعلنته “الأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية”، بتاريخ 18 آب 1975، بعد أربعة شهور من اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، ولم تستطع تنفيذه، بسبب تشابك المعارك، واستمرار الحروب المناطق والزواريب، وتدخل القوى الخارجية، ولاسيما إسرائيل. وبعد المؤشرات التي تدل على خراب البلد، بسبب الصراع الطائفي الطاغي في لبنان، وفشل كل المشاريع الطائفية في الوصول إلى صيغة توافقية للحكم، بات علينا التفكير في استعادة تلك الإصلاحات التي من شأنها استعادة الدولة وإعادة بنائها، وإضافة أفكار جديدة، لمواجهة ما استجد من أزمات وظروف جديدة في لبنان والعالم، تستوجب التفكير في حاجيات عصر جديد، وجيل جديد.
إذا كانت المبادئ الإصلاحية العامة للبرنامج السابق الذكر، قد مضى عليها نصف قرن حتى الآن، إلا أن خطوطها العريضة لا تزال صالحة حتى اليوم، للتأسيس عليها من قبل الأجيال الجديدة التي ينبغي أن تُدخل عليها بعض التعديلات، كما يمكننا نحن أن نحتكم للأساليب النضالية الجديدة لتلك الأجيال، والوقوف عندها،
وأخذها بعين الاعتبار، لأن التغيير يقوم على كواهل الشباب أولًا وآخرًا، وما علينا نحن سوى المساهمة في فتح الطرق أمامهم، وفتح حوارات معهم وبينهم، من أجل الإثراء لا الإملاء. ولهذا كل تركيز “مؤسسة عامل” ينصبّ على اختيار العناصر الشبابية الجادّة لتشكل نواة نشطاء، وقادة، لمستقبل التغيير الذي نسعى وإياهم لتحقيقه.
ونحن نتكلم عن الحركات الاجتماعية، لا نستطيع العبور فوق كثير من الكلام السلبي على المنظمات غير الحكومية NGO’s، ولا القفز فوق تهافت الشباب على تأسيسها والعمل فيها كمجال للعمل المهني، لا التطوعي، بعد التخرج الجامعي، ولا التغاضي عن ارتباط عدد كبير من هذه المنظمات بمشاريع سياسية تابعة للدول الممولة، ما ينبئ بأن تلك الحركات لا يمكن أن تنتج حركة تغيير في المجتمع، بسبب المصالح المتضاربة التي تحكمها، والتي من شأنها أن تساهم في خلق جو من الفوضى. وإذا كانت الأحزاب اليسارية في لبنان لا تزال تعاني الهزيمة والشلل، والأحزاب الطائفية ما زالت تُسيد وتَمِيد، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: من يقود التغيير في المجتمع اللبناني إذًا؟ وللإجابة عن هذا السؤال، يمكن القول إن الحيوية التي يتمتع بها المجتمع اللبناني، وقد شهد ذات يوم ظواهر شبابية مختلفة، منها ما أطلق عليه، في سبعينيات القرن الماضي، مصطلح “شباب التغيير”، من شأنها أن تجعل هذا المجتمع يجدد أدواته بين مرحلة وأخرى، بل يجدد رفضه للواقع القائم، كل مرة، فيخلق حالة رفض لما يجري من انهيار للنظام اللبناني، على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وينخرط في التيارات التي يولّدها هذا الرفض، إن كانت تيارات سياسية أو اجتماعية، أو حتى بيئية.
ولا نبالغ إذا قلنا إن “مؤسسة عامل الدولية”، بالإضافة إلى بعض المؤسسات والمنظمات الإنسانية الأخرى، من شأنها أن تمارس خط دفاع أول عن المجتمع، وتعمل على لعب دور حركة اجتماعية تغييرية، بل إن شرط تسمية أي منظمة “حركة اجتماعية” هو كونها تغييرية. و”عامل” صاحبة تجربة رائدة في الحراك داخل المجتمع اللبناني، ورائدة في علاقاتها بالقوى الاجتماعية المحلية والعربية والأجنبية، ومبادِرَة أساسية في التنسيق والمتابعة، وفي ما تصبو إليه من تغيير. وهي، في كل مناسبة، ولا سيما في ظل ظروف الناس الصعبة، ووسط نيران الحرب التي تربك حاضر الناس ومستقبلهم، تحول مراكزها وأماكن تواجد النازحين واللاجئين إلى خلايا عمل تنطلق من تخفيف المعاناة اليومية لتصل إلى فهم الأسباب والحلول.
أعود إلى القول، بعدما تعطلت آلة الأحزاب، وتابعت “عامل” طريقها من دون ضجيج، أو تلميع إعلامي، أو استعراضات فولكلورية، معتمدة أسلوب الانفتاح على كل من يساهم في إعادة بناء الوطن، بمرونة تامة في التعامل مع العصر الجديد، والوقائع الجديدة التي يضج بها العالم، ومن أجل ذلك تجدد المؤسسة دمها بشكل دائم، من خلال التمسك بمبدأ العمل مع جيل الشباب، ولاسيما الإناث منهم، كي يأخذن حقهن في إثبات دورهن المهم في بناء المجتمع اللبناني. ولا أبالغ إذا قلت إن 85 في المئة من العاملين في “عامل” شابات، ويقمن بأعمال مهمة، في شتى المجالات التي تقوم بها المؤسسة، وبنجاح، وتميّز، وحيوية، وذكاء. وكانت مشاركتهن في التصدي للعدوان الإسرائيلي من خلال الصمود، مثلهم مثل الشباب، إذ بعدما تضررمن جراء العدوان 14 مركزًا لـ”عامل”، أعاد كوادرنا، ذكورًا وإناثًا، انتشارهم في مراكز بديلة، ومن كان منهم من القرى النازحة راح يبحث عن تجمعات النازحين في المدارس والأحياء الشعبية.
ربما كان من الأفضل أن يتنافس شبابنا على خدمة الوطن، من خلال أحزاب سياسية ومدنية، تعمل على بناء الإنسان المواطن، وتتصدى لكل مشاريع إضعاف لبنان وتفتيته وتقسيمه، وتقود التغيير نحو لبنان الوطن النهائي لكل مواطنيه، الوطن القوي المقاوم الذي يعرف كيف يحمي حدوده، ويصون كرامة مواطنيه، ويحتضن طاقته الشبابية، فيكسب أدمغتهم في بناء وطن جديد، بدلًا من هجرتهم وتسخير تميزهم في بناء أوطان بديلة، أو الانخراط في صفوف التناحر الطائفي.
لا تدعي “عامل” أنها بديل من الأحزاب السياسية الوطنية، ولا تتعامل بحساسية في علاقتها بما تبقى من تلك الأحزاب، وهي، في الوقت نفسه، لا تتنكر لها، ومع ذلك تبقى، في أنشطتها ورؤاها وتطلعاتها إلى الحاضر والمستقبل، مستقلة عن الأحزاب السياسية بالمعنى المباشر للصفة السياسية، ونقول “بالمعنى المباشر”، كون عملها يمكن أن يندرج في النهاية ضمن المعنى الواسع للسياسة، كون السياسة تمثل كل القضايا، أو كما قال هيغل إنها علم الأحياء التطبيقي، لما تطلبه من ذكاء ودهاء وتفكير وطاقات حيوية.
ولأن “عامل” منظمة إنسانية عمومًا، فهي، تبعًا للمشاريع التي تقوم بها، وتبعًا لحركتها في العالم، تعتبر حركة اجتماعية تغييرية، والتغيير هو أولًا وآخرًا هدف سياسي. على أن الفرق بين العمل السياسي والعمل الاجتماعي لا يعدو كونه أداتيًّا، إذ الأول يعتمد النضال السياسي المباشر، والثاني يعتمد الترميز السياسي غير المباشر.
وإذا اعتمدت الأحزاب السياسية في لبنان واقع وجود قيادة وقاعدة، فنحن في المؤسسة نشدد على الدور القيادي لكل كادر من كوادرنا، وعلى عمله النضالي المتفاني في العطاء. وإذا كان يعمل اليوم في “عامل” 1800 شخص، فإن جميع هؤلاء قادة، يقررون وينفذون، على أمل أن يصبح المجتمع الذي نعمل وسطه هو الذي يبادر، ويقود نفسه بنفسه. وعندما يصبح المجتمع في مستوى المسؤولية يستطيع أن يتحمل مسؤولية التغيير. فالتغيير يحدث في بلادنا بقرار من السلطة، أي أن هناك شخصًا يقرر والباقون ينفذون. وهذا ما يحصل في الدول والأحزاب والعائلات والجمعيات. أما فهمنا للتغيير فيمر عبر أولئك المناضلين الذين يمنحون الناس تعبهم ووقتهم، وينفتحون على العالم في تفكيرهم، بل تعتمد المؤسسة فتح المجال لعمل كوادر أجنبية معها، تلعب دورًا في فتح آفاق العلاقة بحركات اجتماعية أجنبية، تفيد المؤسسة بخبراتهم العريقة في مجال العمل الاجتماعي، وفي الوقت نفسه تفتح أبواب المؤسسات الأجنبية بثقة متبادلة.
لا يكون النضال الذي نتحدث عنه في الفراغ، إنما يرتكز على مجموعة من الأنشطة والمشاريع التي بينها ما يخدم الفرد، فتنسج المؤسسة علاقة بنيوية به، وبينها ما يخدم المجتمع فتنهض به المؤسسة ليكون دعامة المجتمع. وفي كل الأحوال إن التعامل مع الفرد هو السبيل للوصول إلى المجتمع.
إن عددًا من الحركات الاجتماعية اختارت لنفسها الإطار الرعائي والإحساني والخدمي، للتعامل مع الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، والصحية، لكننا نعتبر أن تلك الأزمات ناتجة تاريخيًّا عن العلاقات التبعية، وحديثًا عن سياسات النيوليبرالية الجديدة، وبالتالي لا يمكن أن نرضى، ومعنا عدد من الحركات الاجتماعية، بهذه الحدود من العمل الوظيفي، فنبحث دائمًا عن دور أكثر فاعلية، يستمر وقت الأزمة والانفراج، ووقت الحرب والسلم. بمعنى أننا نبحث دائمًا عن مشاريع تنموية تنشّط المؤسسة في تنفيذها، من حيث علاقتها بمستقبل المجتمع، إذ إن بعضها يحتاج إلى عملية نضالية تتوازى مع العمل السياسي، مثل النضال من أجل تحرير المرأة، أو حماية البيئة، أو الدفاع عن حقوق الإنسان، أو تحصين الكرامة الإنسانية… هذا النوع من عمل الجمعيات يحتاج إلى تحشيد أفراد المجتمع، وإقناعهم بأن تحقيق مثل هذه الأهداف يحتاج إلى تغيير في بنية النظام، وكلما اصطدمنا بقضية خلافية مع الدولة بتنا أكثر قناعة في إصلاحها، مما يجعل هذا النوع من النضال أقرب إلى العمل السياسي، بل يتقاطع معه. وكثيرًا ما وصلت جمعيات بيئية إلى السلطة، من خلال عملها النضالي لحل مشكلات بيئية، كما حصل في ألمانيا مثلًا، عندما دخل “حزب الخضر” إلى البرلمان، وبات جزءًا من السلطة السياسية، هو الذي تدرج في الحركات المناهضة للطاقة النووية، والحركات البيئية، وحركات السلام، وحركات اليسار الجديد، والحركات الاجتماعية الجديدة. أو كما حصل عندما وصلت نساء في العالم إلى السلطة، عبر نضالهن التاريخي في سبيل المساواة مع الرجل، وقد بلغت نسبة البرلمانيات في العالم اليوم حوالي 25%.
تساهم الحركات الاجتماعية، بالفعل، في إحداث تغيير في المجتمع، وإذا كنا نخضع أحيانًا للواقع الأليم الذي يعيشه أهلنا في ظل الحرب، كما حدث خلال الأحداث الأمنية الأخيرة، وما زال يحدث حتى الآن، في ظل سياسة العدوان الإسرائيلي، فيتحول جزء من عملنا إلى أعمال الإغاثة، ونواكب الأحداث بروح التضحية، وهذا ما حصل عندما نزح 60% من كوادرنا عن المناطق المشتعلة بنيران الحرب، وتحولوا بفعل واجبهم الوطني إلى مجندين في خدمة النازحين، فَتَبِعوهم ليتعاونوا معهم ويتضامنوا، جامعين مع أعمال الإغاثة أعمالًا تنموية. وهم بذلك يؤكدون شراكتهم مع الناس، وتعزيز قيم التضامن والانتماء المشترك بين جميع فئات المجتمع، وحماية الفئات الأضعف (الأطفال، النساء، المسنون، العمال المهاجرون)، لا مِنّةً أو شفقةً عليهم، والعمل مع الناس وليس باسمهم، ليثمر ذلك أيام السلم شراكة فعلية من قبل الناس في المشاريع التي نقدمها. بل نخوض في مراكزنا تجربة أن تكون أنشطتنا نفسها تحت إشراف الناس، وتحت إدارتهم، وأن يشكل ذلك تنمية لقدراتهم، وفهمهم ثقافة الحقوق، ومنها حق الناس بالبيئة السليمة، الصحة، مشاركة المرأة وحرية التعبير. إن فهم الناس لمصلحتهم، تعتبر الخطوة الأولى في طريق الاحتجاجات التي تقوم بها الحركات الاجتماعية، والتي من شأنها أن تحدث إصلاحات، وبالتالي تحدث تغييرًا. إن المؤسسة وهي تعمل منفردة كل ذلك، تسعى لتطوير شبكات دعم مجتمعي جديدة، تكون على مستوى المسؤولية في الحالات الطبيعية وحالات الطوارئ.
عَبَرَتْ “مؤسسة عامل”، فوق كونها مؤسسة إغاثيّة وإنسانيّة، هي التي كانت بداياتها أثناء الحرب الأهلية، وواكبت الأزمات الناتجة عن العدوان الإسرائيلي عام 1982، واستمرت وتستمر في عملها واحتجاجها على الحرب، داعية إلى السلام العادل. لكنها بعد تلك المرحلة الإغاثية، انخرطت في إطار العمل التنموي المستدام الذي يفتح الآفاق أكثر على التغيير ويحرك رياحه، ولعل انتشارها في مناطق لبنانية متباينة دينيًا وسياسيًا، منحها ثقة أكبر من قبل الناس الذين فهموا ثقافتها المضادة للحرب، مدنيتها، في بلد تمزقه الصراعات الطائفية، وتعاملوا معها على أساس أنها منهم وإليهم.
وفي ظل الحروب الإجرامية المتوالية التي تقوم بها إسرائيل، ضد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية. وما قامت به من حرب تدميرية ضد لبنان، لعبت “عامل” دورًا رياديًا على مستوى الحركات الاجتماعية، فبادرنا، كما فعلنا ونفعل في أحداث مشابهة، لتحريك الجمعيات والفعاليات الاجتماعية، وحتى الجهات الرسمية، في اتجاه اتخاذ مواقف إنسانية واجتماعية وسياسية، وبالتالي، فإن قدرة المؤسسة على التأثير تتخطى المستوى المهني إلى مستوى التأثير في المجتمع، والسعي الدائم لتغييره نحو الأفضل، وتتخطى الاحتجاج الاجتماعي البسيط، إلى احتجاج على السلطات التي تقصر في رعاية المواطن، أو تمنع تطور المجتمع، من خلال الاحتجاج على القوانين المرعية التي تخص المشاريع التي تتبناها المؤسسة، وتتولى تنفيذها، بالاتفاق مع مؤسسات إنسانية كبرى، وجهات أجنبية رسمية، تهتم في مجالات البيئة، والعناية الصحية، وحقوق المرأة، والكرامة الإنسانية، وسواها من المشاريع الستَّ عشْرةَ التي تقودها… هي في الغالب احتجاجات يتداخل فيها الطابع الاجتماعي أو الاقتصادي بالطابع السياسي، وتتقاطع بها الحركات الاجتماعية مع أحزاب وتيارات وطنية.
في الأحداث الأخيرة، وبخاصة خلال فترة احتدام العدوان الإسرائيلي، وزعت “عامل” أنشطتها، انطلاقًا من رؤى سياسية واضحة، فعندما تتبنى العمل المدني كوادرها، وتوزع مراكزها وأنشطتها على مختلف المناطق اللبنانية، على تنوعها الطائفي والمذهبي والسياسي، وتمارس مهماتها بعيدًا عن أي انتماء إلى جنس، أو عرق، أو دين، أو حتى الوقوف عند حدود القومية، تكون بذلك قد مارست دورًا وطنيًّا وإنسانيًا، ينتج على المستوى المحلي مواطنة حقيقية، في طريق بناء وطن للجميع، وعلى المستوى الدولي هوية أممية، فيكون الإنسان، أيًّا كان، وفي أي أرض كان، هو الهدف الأول والأخير من أي تغيير للواقع، وتثبيت للعدالة، وإنهاء للحروب، والتخفيف من رياح الفقر التي تجتاح العالم اليوم في ظل الرأسمالية المتوحشة التي تجعل الأغنياء أكثر غنًى والفقراء أكثر فقرًا.
صحيح أن “عامل” ليست حركة سياسية، لكنها تمارس السياسة في كل موقف تتخذه، وحيال أي حدث في العالم، بل لها موقف من العالم، تعبر عنه في كل لقاء أو مؤتمر أو منتدى، مثلها مثل العديد من الجمعيات التي تنتشر في العالم، وتمارس الفعل الجمعي القائم على المطالبة بالعدالة والممارسات الأخلاقية، وترتبط “عامل” بالعديد من تلك المؤسسات الإنسانية والاجتماعية الناشطة في العالم، وتتبنى ثقافة راديكالية مضادة للحكومات التي لا تتبنى مصالح الشعوب، وتعترض على مفاعيل العولمة والنظام العالمي الجديد، ذي الرأس الواحد الذي يتسبب باقتصاد العالم ويتحكم بالأزمات التي تعصف به. وكيف لا يكون لها موقف مما يجري في منطقتنا من حروب، وهي تعمل في مداواة جراح تلك الحروب! موقفها واضح من القضية الفلسطينية مثلًا، نقوله في كل لقاء دولي نشارك فيه، ونحن مع كل من يعادي إسرائيل أو تعاديه إسرائيل.
قد لا نهتم بالتفاصيل الدقيقة للأحداث، فنذهب إلى المواقف العامة، كأن نطالب بالعدالة في العالم، من دون أن نصدر كل يوم بيانًا نحدد فيه الزمان والمكان، أو نكون ضد كل من يزيد الفقراء فقرًا والأغنياء غنى، من دون أن تكون لدينا وسيلة إعلامية ترصد كل ما يحدث في العالم، أو نكون مع الحرية والديموقراطية ومع تحقيق الكرامة الإنسانية، من دون أن نتابع ما يحدث في كل دولة أو مدينة في العالم، من قمع وظلم وممارسات لاإنسانية. ومع ذلك نحن رافعة اجتماعية تعمل ضد تفكيك المجتمع، وإشعال الحروب، وضد ممارسة العنف بكل أشكاله، وضد تحكم الأسواق بمصالح الناس، وضد الطائفية التي تمزق المجتمع، ولاسيما في لبنان، وهنا نتساءل مع ألان تورين: “أليس التدهور الاجتماعي هو الذي يؤدي إلى تفاقم العنف“، ونستدعي معه “الذات النشطة، أي إرادة الفرد في أن يكون فاعلًا لوجوده”. وما تقوم به “عامل”، في ظل ما يحدث حولها من تفخيخ للمجتمع، ومن انقسامات سياسية حادة في المجتمع اللبناني، هو سياسة، تقوم على تعزيز الفرد، ونيل حقوقه، والدعوة إلى احترام الإنسان، وتحقيق العدالة، والمساواة أمام القانون، والحريات الشخصية. ومن أجل ذلك يتحول كل من يدخل صفوفها إلى عامل ناشط ومبادر وقائد.
قد يكون نظام الدولة في ظل الأزمات التي شهدها لبنان، اقتصاديًا وأمنيًا واجتماعيًا، في أقصى حالات ضعفه، ومع ذلك، ونحن نخوض صراعنا معه لا ننفصل عن الدولة، حتى ونحن نخوض صراعًا سياسيًا تغييريًا ضدها. ونستأنس هنا بقول الباحث في المجتمع المدني الأميركي دون إيبرلي، حين قال: “في المجتمعات الحرة، يجب ان تكون الدولة متفرعة عن المجتمع، خادمة له، وليست سَيِّدَهُ. ويخطئ العلمانيون وأصحاب المعتقدات الدينية، كلاهما، حين يحاولان السيطرة على المجتمع من خلال الدولة. والمهمة الأكثر واقعية هي تقليل سلطات الدولة التي تتطفل على المجتمع، والعمل لإحياء مؤسسات المجتمع المدني“. وبمعنى ما، يمكن القول إن مهمة الحركة الاجتماعية الحقيقية، أن تهيئ القاعدة الأساسية لبناء الدولة، فتكون الدولة المتطورة نتاج مجتمع متطور، و”عامل” من الحركات الاجتماعية التي تعمل على تهيئة المجتمع من تحت، تبعًا لما جاء في كتاب إيبرلي نفسه “نهوض المجتمع المدني، بناء المجتمعات من أسفل إلى أعلى”. فالتطور الذي يحدث يكون داخل المجتمع لا على مستوى أشخاص، والفرد ينبغي أن يكون مسؤولًا للمجتمع لا لزعيم سياسي، خصوصًا أننا نعيش في زمن تُشَيَّأ فيه الأمور، وتسود فيه المادية المتوحشة والروبوت والذكاء الاصطناعي.
نحن جمعية تعمل من الإنسان إلى الإنسان أينما كان، فالإنسان، كما قلنا من قبل، هو الهدف، لا الفئة أو المنطقة أو الطائفة. ومعروف قول مونتسكيو منظّر الثورة الفرنسية الذي يقف خلف فصل السلطات: “أنا كاثوليكي في الولادة، وفرنسي بالصدفة، لكنني إنسان بالضرورة”. وقول تولستوي الثري الذي قدم كل أملاكه إلى الفقراء: “لا تحدثني كثيرًا عن الدين، بل دعني أرى الدين في أفعالك”، وقوله: “إذا شعرتَ بالألم فأنت حي، ولكن إذا شعرت بألم الآخرين فأنت إنسان”.